تحت سماءٍ مشتركة: العواصف الترابية تهدد أمن المنطقة البيئي

بغداد- ارض العراق الاخبارية
زينة السامرائي
یتجلىّ مشھد بيئي معقّد لا تجُدي معھ المعالجات الجزئية أو الخطابات المؤقتة، في ظل تزايد وتيرة: العواصف الترابية في العراق وسوریا خلال السنوات الماضية.
فالعواصف لم تعد مجرد ظاھرة مناخية عابرة، بل نتيجة السياسات والممارسات الخاطئة المتبعة منذ سنوات ماضية في كلا البلدين ، الى جانب وتراجع الإدارة البیئیة، وغياب الإرادة التشریعیة.
والمجتمع وحده من يدفع الثمن تلك العوامل مجتمعة، وعلى مستويات متعدد تشمل الصحة، والتعليم ،والسكن، والزراعة، والتي وإن استمرت الحلول في دائرة الارتجال، فإن البلاد تقف على أعتاب أزمة قد تحُوّل سھولھا الخصبة، وھواءھا النقي إلى ذكرى.
– روايات من واقع المُعاَناة
وهذه الأزمة باتت تظهر تداعياتها السلبية جلیاً على الصیادین والمزارعین في العراق، اذ بات الصیاد من محافظة ميسان العراقية مرتضى الجنوبي، الذي یقطن بین طبيعة الأھوار الواسعة لكونھا تشكل مصدر رزقھ الأساسي، یواجھ تحدیاً كبیراً بسبب العواصف الترابية التي تزداد حدتها عاماً بعد عام .
وتلك العواصف قد تنعكس على قرار الصید الذي لا یتخذ بھذه السهولة، بحسب مرتضى، اذ لا بد أن تتميز الأجواء بصفاء السماء والرؤية الواضحة لأن الأھوار واسعة وتحتوي على الكثير من القصب والممرات المائیة، ولا بد من اجتیاز المسافات الطويلة لنصب شباك الصيد، ومع وجود العواصف الترابية فإن ذلك الأمر غير ممكن لكونھا تعكر صفو ھذه الأجواء.
وتابع قائلاً: “في الأیام التي تعصف بھا العواصف الترابیة، لا یخرج أحد للصید أو إلى الأھوار، لأن الرؤية تكون معدومة، لأنھا تؤثر بشكل مباشر على حیاة الصیادین، ومربّي الجاموس.”
وضرب مرتضى مثالا على ذلك وھي اھوار الحویزة، التي كانت تعج بالحياة سابقاً، إذا تعرضت لجفاف شديد خلال السنوات الأخيرة، مما زاد من معاناة الأھالي وتراجع الغطاء النباتي، وتواتر العواصف الترابية التي تھدد المنطقة بأكملھا .
ولیس بعیًدًا عن العراق، فعلى الجانب الآخر من الحدود، تقع محافظة دیر الزور السورية، حیث تتكرر مأساة مشابھة بأشكال مختلفة، لكنھا تنبع من جذور مشتركة.
وتقول فاطمة وھذا لیس اسمھا الحقیقي وإنما مستعار، وھي طالبة دكتوراه في الھندسة الزراعیة في جامعة الفرات، الى أن الأراضي الزراعية ھناك تعاني من تدھور حاد نتيجة العواصف الغبارية المتكررة، والجفاف الممتد.
وترى أن ھذه الظواھر المناخیة ليست نتيجة عوامل داخلیة فحسب، بل تحمل بعدًا إقلیم یًا یرتبط بسیاسات مشتركة، مثل بناء السدود دون تنسيق، وتدھور الغطاء النباتي في المناطق الحدودیة، وغياب التعاون في مواجھة التصحر، ما أدى إلى تفاقم الأزمات البیئیة العابرة للحدود وزيادة حدة العواصف الغبارية.
ورغم وجود بعض المبادرات البیئیة في سوریا، إلا أن إمكانیاتھا محدودة جًدًا بسبب نقص الدعم المالي واللوجستي، خاصة في ظل تداعيات حرب استنزاف الطاقات والقدرات، بحد قولھا.
وتتركز الجھود حالیًا على إعادة بناء البنیة التحتیة و تامین الاحتیاجات الأساسیة، مما یجعل القضایا البیئیة والمناخية أمرًا ثانویًا في الأولويات، بحسبھا.
وتصف حال المزارعین في دیر الزور بـ “المأساوي،” حیث فقدت الأراضي خصوبتھا نتیجة فقدان الطبقة السطحیة الغنیة بالمادة العضویة بفعل العواصف والجفاف، إضافة إلى تراجع منسوب میاه نھر الفرات، ما أدى إلى صعوبة توفیر میاه الري.
وبسبب ھذه الظروف، اضطرت العدید من العائلات للھجرة إلى مناطق أخرى داخل سوریا وخارجھا، بحثاً عن فرص رزق جدیدة وتأمین مستقبل أبنائھم في ظل ھذه التحدیات القاسیة.
ویبقى الفقراء ومحدودي الدخل ھم الأكثرعرضة للعواصف الرملیة، لانھم في الغالب یكونون مجبرین على العمل في ظروف جویة سیئة.
وأبو أحمد، یعد واحداً من بین ھؤلاء القاطنین في الریف الجنوبي لمحافظة الحسكة، والذي یروي معاناته قائلاً: “أعاني من ضیق في التنفس إلى جانب إصابتي بالربو، ولا یمكنني النوم في اللیل بشكل طبیعي كوني أعتمد على جھاز التنفس، خوفاً من الاختناق اللیلي، والعواصف الغباریة التي كانت سبباً في ازدیاد معاناتي، خاصة أنھا ترافقت مع تعطّل جھاز التنفس “.
یضیف أنھ يضطر لارتداء الكمامة ھو وأطفالھ، كونھم مصابين بالربو أیضاً، في وقت يغلقون فیھ الأبواب والنوافذ بإحكام خشية تسرّب الغبار .
ولكن العواصف الغبارية رغم ذلك لم تمنعھ من استمرارية العمل في محلھ التجاري، كونھ المعيل الوحيد لأطفالھ الأربع.
لم ترُصد إحصائیات 2025–2024ورغم تتبع التقاریر الإخباریة والمصادر البیئیة خلال عامي رسمیة حدیثة توثق عدد الإصابات أو حالات الاختناق الناتجة عن العواصف الترابیة في سوریا، وقد یعزى ھذا الغیاب، كما توحي المؤشرات العامة، إلى تحدیات ھیكلیة في النظام الصحي، وضعف
منظومة الرصد البیئي، لا سیما في المناطق المتأثرة بالصراع، حیث تتقدم أولویات الإغاثة وإعادة الإعمار على الاھتمام بالتوثیق المناخي.
-أزمة بيئية متفاقمة
ولا تقتصر المُعَاناة من العواصف الترابية على الصيادين وحدهم، فقد باتت تطال قطاعي الصحة والتعليم في العراق كذلك.
ففي قضاء الهويش الذي يقع في محافظة البصرة أصبح تأثير العواصف الترابية أكثر وضوحاُ مما مضى، وخاصة على التعليم وصحة الأطفال، وهذا ما تؤكده المعلمة في إحدى المدارس الابتدائية فاطمة علي، من أن أولياء الأمور يبقون أولادهم في المنازل في الأوقات التي تشهد فيه المنطقة عاصفة ترابية.
وتكمل حديثها بالقول أن العواصف تصيب الطلبة بالعديد من المشاكل الصحية المزمنة كالربو والحساسية، مما يضطرهم إلى الغياب بشكل متكرر عن الدراسة، والذي ينعكس سلباً على تحصيلهم الدراسي.
ويتقاطع هذا الواقع المحلي مع ما أكدته منظمة اليونيسف عالميًا، إذ أشارت في تقريرها الصادر عام 2024 إلى أن تعليم ما لا يقل عن 242 مليون طالب في 85 بلدًا تعطل نتيجة الظواهر المناخية المتطرفة.
وقد رصدت وزارة الصحة العراقية ارتفاعًا ملحوظًا في حالات الأمراض التنفسية بين الأطفال خلال مواسم العواصف الترابية، حيث تم تسجيل أكثر من 3700 حالة اختناق ناجمة عن عاصفة رملية ضربت وسط وجنوب العراق.
– كيف وصلت بلاد ما بين النهرين الى هذا الحال؟
في السنوات الأخیرة، أصبح العراق یشھد تزایًدًا غیر مسبوق في وتيرة العواصف الترابیة، وھي ظاھرة مناخية كانت تعدُ في السابق موسمية ومحدودة، لكنھا تحولت الآن إلى خطر دائم یھدد الصحة العامة، ويعطل الخدمات الأساسية، ویفاقُم ھشاشة البیئة.
فبحسب وزارة البيئة العراقية ، سيشهد العراق 243 عاصفة غبارية سنويا وسترتفع الى ان تصل الى 300 يوم مغبر خلال السنة بحلول عام 2050، ما لم تتُخذ تدابير جذرية للحد من هذه الظاهرة.
وبحسب تقرير المركز العربي في واشنطن فقد شهد العراق في عام 2020 أشد مواسم الجفاف خلال العقود الأربعة الماضية، مما أدى إلى تراجع كبير في تدفق المياه في نهري دجلة والفرات و بنسبة بلغت 29% و73% على التوالي.
وقد أعلنت وزارة الزراعة العراقية في الربع الأول من عام 2024 ان حوالي 27 مليون دونم من الأراضي الزراعية لم تسُتثمر خلال السنوات الأربع الماضية، أي ما يعادل قرابة نصف المساحة الزراعية الكلية المقدّرة بـ51 مليون دونم.
وتعكس هذه الأرقام حجم الأزمة المائية التي يواجهها العراق، والتي تنذر بمستقبل أكثر خطورة؛ إذ حذّر مؤشر الاجهاد المائي من احتمال أن يتحوّل العراق إلى “أرض بلا أنهار” بحلول عام 2040.
– ضعف القانون البيئي
من الجانب القانوني، ما تزال التشريعات البيئية في العراق غير كافية لمواجهة التحديات المتصاعدة الناجمة عن العواصف الترابية المتكررة، رغم وجود قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009 الذي تنص المادة السابعة عشر منه على أنه : يمُنع أي نشاط مباشر، أو غير مباشر يؤدي إلى إضرار التربة، أو تدهورها أو تلوثها، أو من شأنه الإضرار بالغطاء النباتي.
كانت أصدرت وزارة البيئة العراقية، خلال العواصف التي شهدها العراق في نيسان العام الحالي، عدة توصيات ترُسل إلى دوائر البيئة في كل محافظة، وهي الجهة المختصة محليًا بمتابعة قضايا البيئة، وتفعيل الخطط الخاصة بالطوارئ البيئية.
كما وقد تشمل التوصيات الجهات الأمنية، والصحة، والبلديات، والدوائر المختصة بإدارة الأزمات في المحافظات، لضمان التنسيق المشترك.
لكن من حيث التنفيذ الفعلي، لا توجد جهة مركزية موحدة مكلفة حصريًا بتنفيذ هذه التوصيات، وغالبًا ما يكون ذلك بحسب إمكانيات وقدرات المحافظة، مما يؤدي أحيانًا إلى ضعف التنفيذ أو تأخره.
كما أن مشروع قانون إدارة الكوارث البیئیة، الذي من المفترض أن یغلق ھذا الفراغ، لا یزال مجمّدًا منذ طرحھ كمقترح، ولم یتحول حتى الآن إلى قانون نافذ بسبب تعارضھ مع التوجھات الاقتصادیة الحالیة القائمة على توسعة الإنتاج النفطي في أوائل عام 2022، وغیاب الإرادة السیاسیة لفرض قیود بیئیة قد تمس مصالح الفاعلین في الاقتصاد الریعي.
وأشار تقرير البنك الدولي ، الصادر في مايو 2022، إلى أنّ مشروع قانون إدارة الكوارث البيئية (والذي يهدف إلى إغلاق ثغرة واضحة في إدارة الأزمات المناخية)، لم يرسل الى البرلمان لغاية هذه اللحظة، بسبب تداخل في الصلاحيات مع مؤسسات حكومية عدة مثل وزارتي البيئة والداخلية، والدفاع المدني. وأعُيد تأجيل المشروع رغم إدراجه ضمن خطة رفع أدوات بيئية جديدة.
هذا القصور في الإطار التشريعي يسلطّ الضوء على الحاجة الملحّة لإصدار قوانين أكثر تخصصًا وشمولاً، تضمن وجود إجراءات استباقية، وخطط استجابة واضحة، وتحدد الجهات المسؤولة بشكل مباشر، مع آليات للمحاسبة القانونية في حال الإخفاق أو الإهمال.
– تدخلات محدودة لا توازي حجم الأزمة
رغم استفحال أزمة التصحر في العراق واتساع رقعتھا عامًا بعد عام، لا تزال المعالجات القانونية والمؤسساتية تبدو متواضعة وغير قادرة على مواكبة حجم الكارثة، بحسب ما یؤكده مختصون في القانون البیئي.
ويقول المحامي محمد جمعة، المتخصص في قضايا حقوق الإنسان، إن “جھود مكافحة التصحر في العراق لا تزال محدودة جًدًا، ويمكن وصفھا بالبدائية إذا ما قورنت بحجم التحديات البیئیة التي نواجھھا.”
یضیف أن وزارة البيئة لدیھا وحدة مختصة بملف التصحر، لكن معظم نشاطاتھا تقتصر على التوعية في المدارس والجامعات، أو المشاركة في المؤتمرات، دون وجود تدخلات میدانیة مؤثرة.
وذلك الأمر يتعارض مع ما تلزُم بھ وزارة البیئة المشاريع الاستثمارية، مثل المجمعات السكنية والمراكز التجارية، بتخصيص مساحات خضراء، لكن ھذه الخطوة تظل شكلية، ولا تتناسب أبًدًا مع حجم الأزمة البیئیة المتصاعدة في البلاد.”
ويتابع أن ھناك حاجة ماسّة لتشكيل ھیئة وطنية عليا لمواجھة التصحر والتغير المناخي، تكون مرتبطة برئاسة الوزراء، وتعنُى بوضع معالجات استراتیجیة وتشريعات واضحة وملزمة لكافة مؤسسات الدولة .
كما یجب أن یفتحُ الباب أمام التعاون مع المنظمات الدولیة، نظرًا لأن العراق ما زال يفتقر إلى الخبرات الكافية في ھذا المجال.
ولكن الأمر الأخطر من ذلك، في رأیھ، أن ھناك حالة من الغياب العام للوعي بحجم الكارثة البیئیة المقبلة، وإذا لم يتم اتخاذ إجراءات جادّة ومدروسة، فقد یواجھ العراق مستقبلًا مناخیًا قاتمًا يصعب التعامل معھ لاحقًا.
– الأيادي الخضراء: مبادرة تطوعية لمواجهة التصحر
وفي ظل تصاعد ظاهرة التصحر والعواصف الترابية التي تتفاقم يوماً بعد يوم في العراق، برزت مبادرات تطوعية شبابية تهدف إلى التصدي لهذه التحديات البيئية التي تهدد حياة الناس ومواردهم الطبيعية.
ومن بين هذه المبادرات، فريق “الأيادي الخضراء “في كركوك الذي يقوده الناشط البيئي حكيم ماجد، والذي يعمل بجد لزيادة الغطاء النباتي وتوعية المجتمع.
ويقول الناشط البيئي حكيم ماجد، مؤسس فريق “الأيادي الخضراء التطوعي” في كركوك: “نحن نعمل منذ عام 2019 على قضايا البيئة، وركيزتنا الأساسية هي زيادة الغطاء النباتي وتوعية الشباب.”
وأضاف: “لكنّ الأجواء في كركوك بات تصُنّف حسب وزارة البيئة العراقية بأنها سامة ، نتيجة عدة عوامل، أبرزها كون المدينة صناعية بامتياز، وانتشار الشركات النفطية، فضلًا عن وجود أكثر من 230 ألف سيارة، إضافة إلى المولدات الأهلية، والدراجات غير المرخصة، و كلها تساهم بتفاقم التلوث”.
ويرى حكيم أن أزمة المياه تمثلّ العائق الأكبر في طريق مواجهة التصحر والعواصف الترابية في العراق. ويشير إلى أن
“مشروع كركوك الكبير” كان من الممكن أن يستثمر مياه نهر الزاب، لكن ضعف التنفيذ والإدارة حالا دون ذلك.
و”خلال السنوات العشرين الماضية، خسرنا 17 مترًا من عمق المياه الجوفية، حسب تصريح مدير الموارد المائية في كركوك”، يضيف حكيم.
“وهذا ما دفع مزارعين كثيرين للنزوح نحو المدينة أو اللجوء إلى حفر الآبار العشوائية، مما يستنزف الموارد الطبيعية بشكل خطير”، بحسبه.
كما يوضح أن العراق يتأثر بشكل مباشر بالمنخفضات القادمة من البحار المجاورة والمحيطة بالعراق ، التي تجلب معها عواصف ترابية ضخمة، مشيرًا إلى غياب الغابات، أو الأحزمة الخضراء التي يمكن أن تكون بمثابة “حائط صد” لهذه الرياح.
وفي رأيه “لا يمكن للعراق أن يواجه التصحر بدون معالجة أزمة المياه أولاً، فالغطاء النباتي ليس ترفًا، بل ضرورة لحماية البيئة والصحة العامة”.
رغم كل هذه التحديات، تمكن فريق “الأيادي الخضراء” الذي يقوده حكيم من تشجير 178 مدرسة في كركوك بنظام ري متطور، ما يعادل نحو 12.5% من مدارس المحافظة، وبدعم من منظمات محلية ودولية.
كما يعمل الفريق حاليًا على إنشاء غابة في جنوب كركوك وبالتعاون مع إدارة المحافظة، ويطوّر أوراقًا مشتركة مع وزارة التربية لدمج مفاهيم المناخ في التعليم، إضافة إلى مناقشة ملفات النفايات والنقل العام الصديق للبيئة.
- شراكة أممية ـ عراقية لمكافحة التغير المناخي والتصحر
ويعد العراق من بين أكثر 10 دول عرضة لتغير المناخ في العالم اليوم، وقد أصبحت أزمة المناخ حقيقة واقعة بالفعل.
وتؤثر الحرارة الشديدة والجفاف، وانتشار العواصف الرملية والترابية تأثيرا كبيرا ليس فقط على الزراعة وإنتاج الغذاء، أو على الاقتصاد العراقي، بل أيضا على المدن وسكان الحضر بشكل مباشر.
وقد أصبحت العواصف الرملية والترابية مشكلة صحية عامة في الكويت والعراق مع زيادة أمراض الجهاز التنفسي وحتى وفاة الناس بسبب هذه الظواهر الجوية القاسية.
وسلط محمد نصار، مدير مشروع تحسين الصمود في وجه العواصف الترابية والرملية في برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية UN-Habitat على الجهود التي يقودها البرنامج في العراق للحد من آثار التصحر والعواصف الترابية، لا سيما في المناطق الأكثر هشاشة جنوب البلاد.
وأشار إلى أن المشروع الذي يديره يعُد الأول من نوعه من حيث الانتشار والتكامل في البيئات الصحراوية، إذ يهدف
إلى إعادة تأهيل النظم البيئية المتدهورة من خلال حزمة تدخلات تشمل استصلاح الأراضي، وتوفير مصادر مياه دائمة، وزراعة أنواع محلية من النباتات المتكيفة مع الجفاف والملوحة.
وتم البدء بالعمل على المشروع في عام 2023 حيث أتفق حينها مع وزارة الزراعة على تزويد الفريق بـ150 ألف شتلة لزراعتها في المناطق المستهدفة.
وشملت هذه الشتلات نوعين من النباتات وهما: الأثل وشوك الشام، واللذان يعدان من النباتات المحلية المقاومة للملوحة والجفاف، وتتكيف مع درجات الحرارة العالية، مما يجعلها مناسبة لطبيعة البيئة العراقية.
وأوضح نصار أن المشروع يعتمد على منهجية علمية في اختيار المواقع، وبالتنسيق مع وزارات التخطيط والزراعة والبيئة والموارد المائية.
وتلك الخطوة تأتي من خلال لجنة استشارية فنية أنُشئت بموجب الأمر الديواني رقم 73 لسنة 2021، حيث تدُار آليات العمل بالشراكة مع الجهات العراقية المختصة.
ووزارة الزراعة، ممثلة بدائرة الغابات والتصحر، تلعب دورًا أساسيًا في تقديم الخبرة الفنية، وتوفير أنواع الشتلات المناسبة، بينما تشرف وزارة الموارد المائية على تنفيذ أعمال البنية التحتية المائية، وتتابع حفر الآبار في المناطق المستهدفة.
وأما وزارة البيئة، فهي تساهم في تقييم الأثر البيئي للتدخلات، ما يمنح المشروع بعدًا تكامليًا.
وفي رده على سؤال حول أبرز التحديات، أكد أن الواقع على الأرض معقّد، خصوصًا بسبب سيطرة بعض العشائر أو الأفراد على أراضٍ صحراوية مخصصة للتشجير أو حفر الآبار، مما يعيق تنفيذ بعض مراحل المشروع.
كما أشار إلى محدودية الموارد المالية، والحاجة إلى دراسات تقييم طويلة الأمد لقياس أثر المشروع بدقة، بالإضافة إلى التحديات المناخية المستمرة مثل شح المياه وتدهور الغطاء النباتي.
ومع ذلك، عبّر عن تفاؤله بالنتائج الأولية، خاصة بعد أن تم تسليم بعض أجزاء المشروع إلى الحكومات المحلية في المحافظات، وهو ما يعتبره دليلًا على نجاح العمل ومتانة الشراكة مع الجهات العراقية.
– وجهٌ إقليمي لأزمة بيئية عابرة للحدود
للعواصف الترابية في منطقة الشرق الأوسط بعدًا إقليميًا معقدًا، يتخطى حدود دولة واحدة ويشمل عدة دول تواجه تحديات بيئية ومناخية متشابكة. هذه الظاهرة تعكس تأثيرات مشتركة لسياسات وإدارة الموارد الطبيعية.
يقول صميم سلام، راصد وباحث ميداني في مجال البيئة والمياه أن العواصف الترابية التي ضربت العراق مؤخرًا ظاهرة إقليمية تنبع من مصادر خارجية وداخلية، منها بؤر الغبار في شرق سوريا والبادية الغربية غرب العراق، إضافة إلى بؤر محلية مثل محافظة السماوة التي تعاني من نقص الغطاء الأخضر والتشجير. هذا أدى إلى تشكل جدار غباري كثيف.
ووفقاً للمحدد العالمي لجودة الهواء، تتركز هذه العوالق الغبارية بشكل أكبر في وسط وجنوب العراق، وتؤثر بشكل خاص على النازحين في المخيمات بسبب جسيمات الغبار الدقيقة التي تسبب أمراضًا تنفسية مزمنة.
وعلى المستوى الحكومي، يتطلب الأمر معالجة بؤر الغبار محليًا، بالزراعة أو المعالجة الكيميائية عند تعذر الزراعة، كما يجب فتح حوار مع دول الجوار مثل سوريا والأردن والسعودية لتنسيق الجهود الزراعية، لأن العواصف تنتقل عبر الرياح لمسافات واسعة.
التغير المناخي يزيد من وتيرة هذه العواصف ويؤدي إلى هطولات مطرية غير منتظمة، ما يصنف كتطرف مناخي.
لذلك، من الضروري تقليل انبعاثات الكربون والوقود الأحفوري، والانتقال إلى الطاقة البديلة كمصدر مستدام.
وترى الدكتورة توغبا أيفريم، خبيرة السياسات المائية التركية ومنسقة تطوير السياسات في المعهد التركي للمياه
SUEN، أن فهم ظاهرة العواصف الترابية لا يكتمل دون النظر إلى الأبعاد الإقليمية المرتبطة بإدارة الموارد المائية والتغير المناخي، كون العراق ليس اللاعب الوحيد في هذه الساحة ، حيث تتشارك تركيا، وإيران، وسوريا، بذات
التحديات نفسها، لكن تقاسم التجارب والنجاح في بناء حوكمة مائية إقليمية قد يخفف من الأضرار التي نراها اليوم على شكل موجات غبار متكررة وجفاف مستمر.
وتضيف قائلة: نحن اليوم أمام تحدٍّ مشترك في المنطقة يتمثل في تغيّر المناخ وشحّ المياه،. وإذا أردنا مواجهة هذه
التحديات بجدية، علينا البدء بتحسين كفاءة استخدام المياه، لا سيما في القطاع الزراعي الذي يستهلك أكثر من 75% من الموارد المائية.
وترى أن توفير التمويل، وتدريب المزارعين، وتبنّي ذهنية جديدة لدى صناع القرار هو ما سيحُدث الفرق، مشيرة إلى أن “العراق يملك إمكانات كبيرة لإدارة موارده بكفاءة، وربما يتفوق على بعض دول الجوار، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والوعي المؤسسي.”
– من الورق إلى الواقع: حلول مطروحة تنتظر التطبيق
ما بين سهول العراق الجافة وضفاف الفرات المتشققة في سوريا، يتكشّف واقع مناخي موحد لا يعرف حدودًا سياسية.
فالعواصف الترابية لا تعترف بخطوط الفصل، بل تمرّ على المخيمات والمدارس والمزارع في البلدين معًا، مُخلفّةً آثارًا صحية واقتصادية وإنسانية تزداد حدّتها عامًا بعد عام.
ويرى الخبراء أن التعامل مع هذه الأزمة لا يمكن أن يظل محصورًا بإجراءات محلية محدودة، بل يتطلب استجابة إقليمية منسقة تبدأ بتبادل البيانات المناخية، وإعادة النظر في السياسات المائية العابرة للحدود، وتنتهي بإطلاق مشاريع مشتركة للتشجير وإدارة الموارد الطبيعية.
ورغم غياب بعض الإحصائيات الدقيقة من الجانب السوري، إلا أن المؤشرات الميدانية توحي بأن ما يحدث في العراق هو انعكاس لما يجري في سوريا – والعكس صحيح. وبينما تتباين الإمكانيات، يبقى التحدي مشتركًا، والحلول ممكنة، إذا ما توفرت الإرادة السياسية، والوعي البيئي، والشراكة الصادقة بين الدولتين.